Social Icons

مباريات ما بعد الباكلوريا

الأربعاء، 10 يونيو 2015

الشخص بين الضرورة والحرية


رغم أن الشخص يتميز بهوية خاصة وقيمة متميزة، إلا أنه ينتمي إلى جماعة ومجتمع معين، ويعيش وفق شروط موضوعية تجعله يدرك أن وجوده مشروط بضرورات نفسية وبيولوجية داخلية أو ضرورات اجتماعية واقتصادية وثقافية خارجية. إن هذا الازدواج في بنية وجود الشخص هو ما يجعلنا نتساءل: هل الشخص ذات حرة أم أنه كيان خاضع لإشراطات وحتميات؟ بأي معنى يكون الشخص، باعتباره حرية وفاعلية ومشروعا، قادر على التعالي على كل الاشراطات والضرورات المحيطة به وتجاوزها؟ غالبا ما يعتبر الشخص، من حيث هو كائن بشري، يتميز عن الكائنات الأخرى بالعقل وبالإرادة، وبالحرية. ويحدد معظم الفلاسفة الوجود البشري، بأنه وجود حر، وكأن كينونة الشخص البشري تكمن في حريته. غير أن ارتباط الشخص بعالم من الضرورات الميتافيزيقية والطبيعية والاجتماعية، جعل بعض الفلاسفة وعلى رأسهم الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا يعيد التفكير في إدعاء الحرية عند الشخص، إذ لا يمكن عنده التفكير في الشخص خارج عالم الضرورة.
يؤسس "باروخ سبينوزا" تصوره، خلافا لكل الاتجاهات الفلسفية التي جعلت حرية الإرادة أساس الأخلاق وأساس الوجود البشري في كليته. إذ يرى أن الاعتقاد في حرية الشخص مجرد وهم، ناجـم عن الجهل بالأسباب الحقيقية لأفعالنا. لذا فإن الشخص حسب سبينوزا خاضع لعالم الضرورة ما دام محكوما بعوامل لا متناهية في العالم المحيط به، في كل جوانبها الميتافيزيقية ،الطبيعية ،الاجتماعية ،النفسية والبيولوجية... وهكذا فإن الشخص لا يكون حرا إلا إذا استطاع أن يكون عن عالم الضرورة فكرة متميزة، وهذه الفكرة المتميزة لا تعدو أن تكون سوى إدراك الأشياء وفق عالم الضرورة. يقول سبينوزا:" بقدر ما تدرك النفس الأشياء كلها على أنها ضرورية، تكون قدرتها على الانفعالات أعظم، أي أن خضوعها لها يكون أقل..."
هكذا تظل الضرورة المطلقة هي السائدة، يخضع لها الإنسان مثله مثل باقي الكائنات الطبيعية الأخرى، ولا قدرة له على الخروج عن عللها وأسبابها، وما يميزه فحسب هو قدرته على الوعي بهذه الحتمية.
وبغية إعادة الاعتبار للشخص كمؤسس للمعنى في الوجود عبر فعله الحر وبنائه لاختياراته ومبادراته، قامت فلسفات الشخص خاصة الفلسفة الوجودية عند "جون بول سارتر"، فقد إنطلق هذا الفيلسوف من التمييز بين الوجود في ذاته أو وجود الأشياء والموضوعات والحيوانات والوجود لذاته أو وجود الإنسان باعتباره ذات عاقلة حرة ومريدة، وما يميز الوجود لذاته حسب سارتر هو أن وجوده سابق لماهيته،أي أنه يختار ماهيته كيفما شاء ويصنع حياته بكل حرية باعتباره مشروعا لذاته، ويتحمل مسؤولية اختياره هذا.وهذه المسؤولية تتجاوز ذاته لتشمل الإنسانية جمعاء. إن الحرية بهذا المعنى هي عين وأساس ماهية الإنسان، أي أن الإنسان لا يكون كذلك إلا باعتباره حرا. يقول سارتر:" إننا لا ننفصل عن الأشياء إلا بواسطة الحرية." فمن دون حرية لا وجود للإنسان.
وبهذا يكون سارتر قد أعاد الاعتبار للشخص بوصفه ذاتا واعية، فاعلة، فاعلة وحرة، ضد كل التصورات. التي أفرغته من خصائصه الإنسانية مختزلة إيـــــــاه في كونه مجرد موضوع. إلا أن الحرية عند سارتر ليست مجرد خاصية للإنسان، بل هي الوجود الإنساني ذاته من حيث هو فعل مستمر مما يجعلها حكما وقدرا ونوعا من الجبرية، كما أن الإطلاقية هي ما يميزها. فإلى أي حد الإقرار بحرية مطلقة للشخص؟ ألا تكون الحرية على العكس من ذلك حرية مشروطة؟
إن ما يمكن أن نخلص إليه، في نهاية هذا الموضوع، هو أن مشكل الضرورة والحرية، يفتحنا على نقاش فلسفي قديم ما يزال يطرح إلى اليوم بأشكال جديدة. فهناك أطروحة المدافعين عن حرية الشخص، وقدرته على الاختيار بين ممكنات متعددة مهما كانت المحددات والإكراهات. وهناك أطروحة الحتمية التي تبين أن الإنسان خاضع لعدة ضرورات فيزيائية وكميائية وبيئية واجتماعية ونفسية لا فكاك منها، وعدم وعيها بوضوح هو ما يوحي له بأنه حر. لكن الإنسان في نهاية الأمر هو الكائن الذي تتجاذبه الحرية والضرورة، فمن جهة من حيث هو ذات واعية ومريدة... فهو ينتـمي إلى عالم الحرية والتحرر ومن جهة أخرى من حيث هو شخصية اجتماعية وبنية نفسية...فهو يخضع لعالم الضرورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق